فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِذَا جَاءكَ المنافقون} أي حضروا مجلسك، والمراد بهم عبد الله بن أبي وأصحابه {قالواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة، ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزور والتأكيد في قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر، أو ليس إلا ليوافق صنيعهم، وجيء بالجلمة اعتراضًا لاماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عز وجل: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود به من أول الأمر، وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك، ونظيره قول أبي الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ** ترى كل ما فيها وحاشاك فانيًا

فالتكذيب راجع إلى {نَشْهَدُ} باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم: {نَشْهَدُ} من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه الشهادة، وقد يقال: الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب، وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم: {نَشْهَدُ} المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة، وهو مراد من قال: أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل.
وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهم إلى ادعائهم المواطأة ضمنًا لأن اللفظ موضوع للمواطئ، وجوز أن يكون التكذيب راجعًا إلى قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني.
وأن يكون راجعًا إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه، قيل: وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ.
وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعًا إلى حلف المنافقين، وزعموا أنهم لم يقولوا {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ حتى يَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِهِمْ وَلَئِنِ رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} لما ذكر في صحيح البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال: «كنت في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فخلفوا أنهم ما قالوا: فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ المنافقون} فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال: إن الله صدقك يا زيد».
وجوز بعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر، وأيًا مّا كان فلا يتم للنظام الاستدلال بالآية على أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الاعتقاد خطأ وكذبه عدمها، وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في {إِذَا} على نحو ما مر آنفًا.
{اتخذوا أيمانهم} أي الكاذبة على ما يشير إليه الإضافة {جَنَّةُ} أي وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أو غير ذلك قال قتادة: كلما ظهر على شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم، وهذا كلام مستقل تعدادًا لقبائحهم وأنهم من عادتهم الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة، ويجوز أن يراد بأيمانهم شهادتهم السابقة؛ والشهادة.
وأفعال العلم واليقين أجرتها العرب مجرى القسم؛ وتلقتها بما يتلقى القسم، ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به، فلهذا يطلق عليها اليمين، وبهذا استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين، واعترضه ابن المنير بأن غاية ما في الآية أنه سمي يمينًا، والكلام في وجوب الكفارة بذلك لا في إطلاق الاسم، وليس كل ما يسمى يمينًا تجب فيه الكفارة، فلو قال: أحلف على كذا لا تجب عليه الكفارة وإن كان حلفًا، والجمع باعتبار تعدد القائلين، والكلام على هذا استئناف يدل على فائدة قولهم ذلك عندهم مع الذم البالغ بما عقبه، وقيل: إن {اتخذوا} جواب {إِذَا} وجملة {قالواْ} [المنافقون: 1] السابقة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وهو خلاف الظاهر، وأبعد منه جعل الجملة حالا وتقدير جواب لا ذا وقال الضحاك: أي اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل، أو السبي، أو نحوهما مما يعامل به الكفار، ومن هنا أخذ الشاعر قوله:
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا ** لصون دمائهم أن لا تسالا

وعن السدى أنهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، وهو كما ترى وكذا ما قبله.
{فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي من أراد الدخول في دين الإسلام؛ أو من أراد فعل طاعة مطلقًا على أن الفعل متعد، والمفعول محذوف، أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم، وأيًا مّا كان فالمراد على ما قيل: استمرارهم على ذلك، وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكى عنهم من الشهادة، ثم قال: واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخدة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لابد أن يكون قبل المؤاخذة، وعن سببها أيضًا كما يفصح عنه الفاء في {فَصَدُّواْ} أي من أراد الإسلام أو الانفاق كما سيحكي عنهم، ولا ريب في أن هذا الصد متقدم على حلفهم، وقرئ أي قرأ الحسن {إيمانهم} بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم، فمعنى قوله تعالى: {فَصَدُّواْ} فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والاعراض عن سبيله تعالى انتهى، وفيه ما يعرف بالتأمل فتأمل {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من النفاق وما يتبعه، وقد مر الكلام في {سَاء} غير مرة.
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من القول الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالًا.
أو إلى ما ذكر من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالايمان الفاجرة أو الإيمان الصوري، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارًا من الاشعار في مثل هذا المقام ببعد منزلته في الشر، وجوز ابن عطية كونه إشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى ساء عملهم {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {ءامَنُواْ} أي نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام {ثُمَّ كَفَرُواْ} ظهر كفرهم وتبين بما اطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقًا فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات، وغير ذلك، و{ثُمَّ} على ظاهرها، أو لاستبعاد ما بين الحالين أو ثم أسروا الكفر فثم للاستبعاد لا غير، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاءًا بالإسلام، وقيل: الآية في أهل الردة منهم.
{فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} حتى يموتوا على الكفر {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} حقيقة الإيمان أصلًا.
وقرأ زيد بن علي {فَطُبِعَ} بالبناء للفاعل وهو ضميره تعالى، وجوز أن يكون ضميرًا يعود على المصدرالمفهوم مما قبل أي فطبع هو أي تلعابهم بالدين، وفي رواية أنه قرأ {فطبع الله} مصرحًا بالاسم الجليل، وكذا قرأ الأعمش. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}
لما كان نزول هذه السورة عقب خصومة المهاجري والأنصاري ومقالة عبد الله بن أُبيّ في شأن المهاجرين.
تعيّن أن الغرض من هذه الآية التعريض بكذب عبد الله بن أبيّ وبنفاقه فصيغ الكلام بصيغة تعمّ المنافقين لتجنب التصريح بالمقصود على طريقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا بال أقوام يشترطون شُروطًا ليست في كتاب الله» ومراده مولى بَريرة لما أراد أن يبيعها لعائشة أمّ المؤمنين واشترط أن يكون الولاء له، وابتدئ بتكذيب مَنْ أُريد تكذيبه في ادعائه الإِيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذلك هو المقصود إشعارًا بأن الله أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دخَائِلهم، وهو تمهيد لما بعده من قوله: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعلم أن المنافقين قالوا: {نشهد إنك لرسول الله}.
فيجوز أن يكون قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} محكيًا بالمعنى لأنهم يقولون عبارات كثيرة تفيد معنى أنهم يشهدون بأنه رسول الله مثل نطقهم بكلمة الشهادة.
ويجوز أن يكونوا تواطؤوا على هذه الكلمة كلما أعلن أحدهم الإِسلام.
وهذا أليق بحكاية كلامهم بكلمة {قالوا} دون نحو: زعموا.
و{إذا} ظرف للزمان الماضي بقرينة جعل جملتيها ماضيتين، والظرف متعلق بفعل {قالوا} وهو جواب {إذا}.
فالمعنى: إنك تعلم أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله.
و{نشهد} خبر مؤكّد لأن الشهادة الإِخبار عن أمر مقطوع به إذ هي مشتقة من المشاهدة أي المعاينة، والمعاينة أقوى طرق العلم، ولذلك كثر استعمال: أشهد ونحوه من أفعال اليقين في معنى القسم، وكثر أن يُجاب بمثل ما يجاب به القسم قاله ابن عطية، ومعنى ذلك: أن قوله: {نشهد} ليس إنشاء، وبعض المفسرين جعله صيغة يمين، وروي عن أبي حنيفة.
والمقصود من قوله: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} إعلام النبي صلى الله عليه وسلم وإعلام المسلمين بطائفة مبهمة شأنهم النفاق ليتوسموهم ويختبروا أحوالهم وقد يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحْي تعيينهم أو تعيين بعضهم.
و{المنافقون} جمع منافق وهو الذي يظهر الإِيمان ويُسر الكفر وقد مضى القول فيه مفصلًا في سورة آل عمران.
وجملة {إنك لرسول الله} بيان لجملة {نشهد}.
وجملة {والله يعلم إنك لرسوله} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وهذا الاعتراض لدفع إيهام من يسمع جملة {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} أنه تكذيب لجملة {إنك لرسول الله} فإن المسلمين كانوا يومئذٍ محفوفين بفئام من المنافقين مبثوثين بينهم هجّيراهم فتنة المسلمين فكان المقام مقتضيًا دفع الإِيهام وهذا من الاحتراس.
وعُلق فعل {يعلم} عن العمل لوجود (إنّ) في أول الجملة وقد عدوا (إنَّ) التي في خبرها لاَم ابتداء من المعلقات لأفعال القلب عن العَمل بناء على أن لام الابتداء هي في الحقيقة لام جواب القسم وأن حقها أن تقع قبل (إنَّ) ولكنها زُحْلقت في الكلام كراهية اجتماع مؤكَّدين متصلين، وأُخذ ذلك من كلام سيبويه.
وجملة {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} عطف على جملة {قالوا نشهد}.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم.
وجيء بفعل {يشهد} في الإِخبار عن تكذيب الله تعالى إياهم للمشاكلة حتى يكون إبطال خبرهم مساويًا لإِخبارهم.
والكذب: مُخالفة ما يفيدهُ الخبرُ للواقع في الخارج، أي الوُجود فمعنى كون المنافقين كاذبون هنا أنهم كاذبون في إخبارهم عن أنفسهم بأنهم يشهدون بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله لأن خبرهم ذلك مخالف لما في أنفسهم فهم لا يشهدون به ولا يوافق قولهم ما في نفوسهم.
وبهذا بطل احتجاج النَظَّام بظاهر هذه الآية على رأيه أن الكذب مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر لأنه غفل عن قوله تعالى: {قالوا نشهد}.
وقد أشار إلى هذا الرد القزويني في (تلخيص المفتاح) وفي (الإِيضاح).
وجملة {إن المنافقين لكاذبون} مبنية لجملة {يشهد} مثل سَابقتاها.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)}
استئناف بياني لأن تكذيب الله تعالى إياهم في قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم {نشهد إنك لرسول الله} [المنافقون: 1] يثير في أنفس السامعين سؤالًا عن أيْمانهم لدى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مؤمنون به وأنهم لا يضمرون بغضه فأخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا أيمانهم تقية يتقون بها وقد وصفهم الله بالحلف بالأيمان الكاذبة في آيات كثيرة من القرآن.
والجُنة: ما يستتر به ويُتَّقَى ومنه سميت الدرع جُنة.
والمعنى: جعلوا أيمانهم كالجُنّة يتّقي بها ما يَلْحق من أذى.
فلما شبهت الأيمان بالجُنّة على طريقة التشبيه البليغ، أُتبع ذلك بتشبيه الحَلف باتخاذ الجنة، أي استعمالها، ففي {اتخذوا} استعارة تبعية، وليس هذا خاصًا بحلف عبد الله بن أُبَيّ أنه قال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}، كما تقدم في ذكر سبب نزولها، بل هو أعمّ، ولذلك فالوجه حمل ضمائر الجمع في قوله: {اتخذوا أيمانهم} الآية على حقيقتها، أي اتخذ المنافقون كلُّهم أيمانهم جُنة، أي كانت تلك تقيتهم، أي تلك شنشنة معروفة فيهم.
{فصدوا عن سبيل الله} تفريع لصدهم عن سبيل الله على الحلف الكاذب لأن اليمين الفاجرة من كبائر الإِثم لما فيها من الاستخفاف بجانب الله تعالى ولأنهم لما حلفوا على الكذب ظنوا أنهم قد أمنوا اتّهام المسلمين إياهم بالنفاق فاستمروا على الكفر والمكر بالمسلمين وذلك صدّ عن سبيل الله، أي إعراض عن الأعمال التي أمر الله بسلوكها.
وفعل (صدّوا) هنا قاصر الذي قياس مضارعه يَصِدُّ بكسر الصاد.
وجملة {إنهم ساء ما كانوا يعملون} تذييل لتفظيع حالهم عن السامع.
وساء من أفعال الذم تُلحق ببئس على تقدير تحويل صيغة فعْلها عن فَعَل المفتوح العين إلى فَعُل المضمومِها لقصد إفادة الذم مع إفادة التعجب بسبب ذلك التحويل كما نبه عليه صاحب (الكشاف) وأشار إليه صاحب (التسهيل).
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)}
جملة في مَوضع العلة لمضمون جملة {اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون: 2].
والإِشارة إلى مضمون قوله: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} [المنافقون: 2]، أي سبب إقدامهم على الأعمال السيئة المتعجب من سوئها، هو استخفافهم بالأيمان ومراجعتهم الكفر مرة بعد أخرى، فرسخ الكفر في نفوسهم فتجرأت أنفسهم على الجرائم وضَرِيت بها، حتى صارت قلوبهم كالمطبوع عليها أن لا يخلص إليها الخير.
فقوله: {بأنهم آمنوا} خبر عن اسم الإِشارة، ومعنى الباء السببية.
و{ثم} للتراخي الرتبي فإن إبطال الكفر مع إظهار الإِيمان أعظم من الكفر الصريح.
وأن كفرهم أرسخ فيهم من إظهار أيمانهم.
ويجوز أن يراد مع ذلك التراخي في الزمن وهو المهلة.
فإسناد فعل {آمنوا} إليهم مع الإِخبار عنهم قبل ذلك بأنهم كاذبون في قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} [المنافقون: 1] مستعمل في حقيقته ومجازه فإن مراتب المنافقين متفاوتة في النفاق وشدةِ الكفر فمنهم من آمنوا لما سمعوا آيات القرآن أو لاحت لهم أنوار من النبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت في قلوبهم.
ثم رجعوا إلى الكفرِ لِلوم أصحابهم عليهم أو لإِلقائهم الشك في نفوسهم قال ابن عطية: وقد كان هذا موجودًا.
قلت: ولعل الذين تابوا وحسن إسلامهم من هذا الفريق.
فهؤلاء إسناد الإِيمان إليهم حقيقة.
ومنهم من خالجهم خاطر الإِيمان فترددوا وقاربوا أن يؤمنوا ثم نكصوا على أعقابهم فشابه أول حالهم حَالَ المؤمنين حين خطور الإِيمان في قلوبهم.
ومنهم من أظهروا الإِيمان كذبًا وهذا هو الفريق الأكثر.
وليس ما أظهروه في شيء من الإِيمان وقد قال الله تعالى في مثلهم: {وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] فسمّاه إسلامًا ولم يسمِّه إيمانًا.
ومنهم الذين قال الله تعالى فيهم: {قالت الأعراب آمنَّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14].
وإطلاق اسم الإِيمان على مثل هذا الفريق مجاز بعلاقة الصورة وهو كإسناد فعل {يحذر} في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم} سورة الآية، في سورة [براءة: 64].
وعلى هذا الاعتبار يجوز أن يكون {ثُمّ} مستعملًا في معنييه الأصلي والمجازي على ما يناسب محمل فعل {آمنوا}.
ولو حمل المنافقون على واحد معيَّن وهو عبد الله بنُ أبُيّ جاز أن يكون ابن أُبَيّ آمن ثم كفر فيكون إسناد {آمنوا} حقيقة وتكون {ثم} للتراخي في الزمان.
وتفريع {فهم لا يفقهون} على قوله: {آمنوا ثم كفروا}، فصار كفرهم بعد الإِيمان على الوجوه السابقة سببًا في سوء أعمالهم بمقتضى باء السببية، وسببًا في انتفاء إدراكهم الحقائق النظرية بمقتضى فَاء التفريع، والفقه: فهم للحقائق الخفية، والمعنى: أنهم لا يدركون دلائل الإِيمان حتى يعلموا حقّيته. اهـ.